مفاوضات أمريكية مباشرة مع حماس- الدلالات والتداعيات على حرب غزة

يمثل انخراط الولايات المتحدة في مفاوضات مباشرة مع حركة حماس منعطفًا هامًا، يحمل في طياته دلالات عميقة وتأثيرات ملموسة على مسار التفاوض الرامي إلى إنهاء الصراع الدائر في قطاع غزة. هذا التطور يفتح الباب أمام مسار جديد، يقلل من النفوذ الإسرائيلي الذي كان مهيمنًا في السابق، الأمر الذي يفسر الارتياب والتحفظ الإسرائيلي تجاه هذه الخطوة.
لقد استقبلت دولة الاحتلال هذا التطور بحذر وقلق بالغين، حيث أكد مكتب رئيس الوزراء نتنياهو، في بيان رسمي، علمه بإجراء واشنطن محادثات مباشرة مع حماس، مصرحًا بأن إسرائيل قد أبلغت الجانب الأمريكي بوجهة نظرها حيال هذه المباحثات.
هذه الصيغة الدبلوماسية تنم عن استياء دفين وعدم رضا تجاه هذا التحول. وفي السياق ذاته، نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم" عن مصدر مطلع قوله إن "إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء المحادثات المباشرة التي تجريها إدارة ترامب مع حماس".
الفرق بين التفاوض المباشر وغير المباشر
لطالما تجنبت الإدارة الأمريكية، تاريخيًا، الدخول في حوارات مباشرة مع حركة حماس، وذلك لأنها تصنفها كمنظمة إرهابية منذ عام 1997، ويردد الساسة الأمريكيون، باستمرار، شعار "نحن لا نتفاوض مع الإرهابيين"، وهو مبدأ تبنوه منذ سبعينيات القرن الماضي، بحجة عدم إضفاء الشرعية على هذه التنظيمات، على الرغم من أنهم قد خرقوا هذه القاعدة في مناسبات عديدة.
فعلى سبيل المثال، دعا الرئيس ترامب ممثلين عن حركة طالبان إلى كامب ديفيد في عام 2019، في محاولة للتوصل إلى اتفاق سلام، لكنه ألغى الاجتماع في نهاية المطاف بعد استمرار هجمات طالبان. كما تفاوضت إسرائيل، بدعم أمريكي، مع منظمة التحرير الفلسطينية خلال اتفاقيات أوسلو في عام 1993. وقد أدى ذلك إلى الاعتراف بمنظمة التحرير ككيان شرعي، على الرغم من تصنيفها سابقًا كمنظمة إرهابية.
في هذا الإطار، كانت الإدارة الأمريكية تعتمد على التواصل مع حركة حماس من خلال قنوات غير مباشرة، كالاعتماد على مسؤولين أوروبيين، أو من خلال مسؤولين سابقين في الحكومة الأمريكية، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والدبلوماسي "روبرت مالي"، وذلك في الفترات التي كانوا فيها خارج نطاق العمل الحكومي الرسمي.
تهدف الولايات المتحدة، من خلال هذا التكتيك، إلى تفادي تقديم أي التزامات أو اتخاذ مواقف ذات طبيعة ثابتة وملزمة، حيث أن ما يصدر عن الوسطاء أو المسؤولين المتقاعدين لا يلزم الإدارة الأمريكية بأي شكل من الأشكال.
وفي سياق الحرب الراهنة، يوفر التفاوض المباشر فرصة لتعزيز فاعلية المفاوضات، خاصة في ظل رؤية إدارة ترامب التي تميز بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل.
سياق الحدث
يتضح في سياق هذا التطور الأخير مجموعة من المعطيات الهامة، والتي تشمل:
1- تبني إدارة ترامب لنهج يمنح الأولوية القصوى للمصالح الأمريكية المباشرة، سواء على صعيد قضية الأسرى، أو على صعيد رؤيتها للحرب في غزة وتداعياتها الإقليمية والدولية الأوسع.
يتجلى هذا التوجه بوضوح في تبرير المتحدثة باسم البيت الأبيض للمفاوضات المباشرة، حيث صرحت بأن "الحوار والتواصل مع مختلف الأطراف حول العالم لتحقيق أفضل المصالح للشعب الأمريكي" هو جوهر هذه الخطوة، وهو ما أكده الرئيس ترامب، الذي يرى في ذلك "جهدًا حسن النية يهدف إلى تحقيق ما هو صائب ومناسب للشعب الأمريكي".
2- تنامي مخاوف الإدارة الأمريكية من سعي رئيس الوزراء نتنياهو لزج الولايات المتحدة في حروب وصراعات لا تخدم المصالح الأمريكية العليا. لقد وضع التصعيد الإسرائيلي المنطقة في العام الماضي على حافة حرب إقليمية شاملة، وذلك عقب قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وما تلاه من تبادل للقصف الجوي بين البلدين والذي كاد أن يشعل فتيل حرب مدمرة.
في المقابل، تحاول الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، تجنب الانخراط في مواجهات عسكرية واسعة النطاق في المنطقة، لما في ذلك من استنزاف لمواردها وإشغالها عن مواجهة التهديد الأهم الذي يواجهها، ألا وهو الصعود الاقتصادي والعسكري الصيني، الذي يهدد بتقويض مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي وتقليل نفوذها العالمي.
ويؤكد موقف الرئيس ترامب بشأن الحرب في أوكرانيا هذه النزعة الانعزالية والحذرة في الإنفاق على الحروب والصراعات البعيدة عن الأمن القومي للولايات المتحدة.
وهو موقف يشاركه فيه فريقه اليميني أيضًا، حيث كان نائبه فانس واحدًا من بين 15 عضوًا جمهوريًا في مجلس الشيوخ، الذين صوتوا ضد حزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل في 24 أبريل/ نيسان 2024، والتي قاد ترامب، في حينه، حملة واسعة لتأخيرها إلى حين إقرار حزمة أخرى تتعلق بقضية الحدود وأمنها.
3- فشل إسرائيل الذريع في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، وصمود المقاومة الفلسطينية الباسلة رغم التكتيكات الوحشية التي استخدمها الاحتلال، ورغم الغطاء السياسي الأمريكي غير المسبوق، الذي يتسبب في استنزاف سياسي ومالي كبير للولايات المتحدة، مما يدفع الإدارة الأمريكية إلى البحث عن طرق جديدة لتحقيق مصالحها، وتفادي إضاعة المزيد من الوقت في انتظار تحقيق حل تعجز إسرائيل عن تحقيقه بمفردها.
4- وفي سياق تاريخي أشمل، يتماشى هذا السلوك مع تاريخ أمريكي وإرث أوروبي طويل الأمد في احتواء الصراع في فلسطين من خلال التفاوض مع طرفيه، وذلك منذ فترة الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى الوقت الحاضر.
المعنى السياسي والتداعيات
يكمن المعنى السياسي الأهم للتفاوض المباشر في فك الارتباط بين المسارين الأمريكي والإسرائيلي بشأن قضية الأسرى، حيث أصبح هناك مساران متوازيان يمثلان طرفين ذوي مصالح متباينة وأهداف مختلفة.
في ظل هذا التباين الواضح، تتضح الأولوية المعلنة للمصالح الأمريكية وليس المصالح الإسرائيلية، على الرغم من وجود العديد من المصالح المشتركة والقواسم المتوافقة بين الطرفين.
أما التداعيات الأبرز لهذا التطور الهام فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- إضعاف الموقف التفاوضي الإسرائيلي، حيث أن تفاوض الإدارة الأمريكية مع طرفي الصراع، يقلل بشكل كبير من وزن إسرائيل وتأثيرها في تحديد المسار السياسي والعسكري للحرب.
في هذا السياق، لا تغير التصريحات المتشددة التي يطلقها ترامب تجاه حركة حماس من حقيقة تراجع الموقف الأمريكي الداعم المطلق لإسرائيل، بل هي تعبير عن تفاعل مع الموقف التفاوضي الجديد، والسعي إلى تحقيق مكاسب سياسية من خلال المبالغة في التهديدات والوعيد.
وهو أمر تكرر سابقًا، ثم تم التراجع عنه لاحقًا، كما حدث في إعطائه مهلة قصيرة لحركة حماس للإفراج عن جميع الأسرى، في 10 فبراير/ شباط الماضي، ثم إحالة رد الفعل إلى الطرف الإسرائيلي، للتغطية على تراجعه.
من ناحية أخرى، قد يكون الهدف من هذه التصريحات هو نفي الرئيس ترامب عن إدارته تهمة الضعف واللين، في الوقت الذي تضطر فيه إلى التفاوض مع منظمة تصنفها واشنطن كمنظمة إرهابية، وهو سلوك يعزز المكانة السياسية للحركة ويضفي عليها نوعًا من الشرعية.
وكان الرئيس ترامب قد وجّه تهديدًا شديد اللهجة لحركة حماس، الأربعاء الماضي، فيما سمّاه "التحذير الأخير لها"، مطالبًا بإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين لديها، وإعادة الموتى منهم، على الفور.
وكتب ترامب على منصة تروث سوشيال: "هذا هو التحذير الأخير لكم! بالنسبة للقيادة، حان الوقت لمغادرة غزة، إذ إنه لا تزال لديكم فرصة. وأيضًا، لشعب غزة؛ هناك مستقبل جميل ينتظر، ولكن ليس إذا احتجزتم رهائن. إذا فعلتم ذلك، فأنتم أموات!". وأضاف ترامب أنه سيكون هناك "جحيم" ينتظرهم لاحقًا إذا لم يتم إطلاق سراح الأسرى بشكل فوري.
- زيادة فرص التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لمدة طويلة نسبيًا، بفضل تكريس عدم ارتهان هذا الأمر بتوجهات اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يعرقل أي مساع للتهدئة.
- تعزيز الشرعية السياسية لحركة حماس، كطرف يقود النضال الفلسطيني المشروع العابر للحدود، وتتفاوض معه الإدارة الأمريكية بشكل مباشر، وإن كان التفاوض يتركز أساسًا على قضايا ميدانية وإنسانية ملحة، إلا أنه يفتح الباب لتقديم الحركة كممثل للشعب الفلسطيني، يعبر عن تمسك هذا الشعب بحقوقه المشروعة وحريته المسلوبة، وصموده الأسطوري في وجه محاولات إخضاعه وتصفية قضيته العادلة.
- زيادة خطر الصدام المباشر مع الإدارة الأمريكية، نظرًا لما يتصف به سلوك الرئيس ترامب من نزعة شخصية متزايدة، ومبالغة في ردود الفعل تجاه القضايا الحساسة.
وبشكل عام، يظل تأثير هذا المتغير محدودًا على المدى الطويل، بسبب وجود موقف أمريكي- إسرائيلي مشترك تجاه تصفية القضية الفلسطينية بشكل عام، وتقويض حركة حماس بشكل خاص. ومع ذلك، فإنه يفتح ثغرة واسعة في جدار التنسيق الأمريكي- الإسرائيلي، الذي كان سدًا منيعًا خلف استمرار الحرب الدائرة في غزة لأكثر من خمسة عشر شهرًا.